فصل: فصل: ماهية التوبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (37):

قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تسبب عن جزاء آدم عليه السلام بالإهباط الذي هو كفارة له أنه أُلهم الدعاء بما رحم به عبر عن ذلك بقوله: {فتلقى} أي فهبطوا فتلقى {آدم} بعد الهبوط، والتلقي ما يتقبله القلب باطنًا وحيًا، أو كالوحي أبطن من التلقن الذي يتلقنه لفظًا وعلمًا ظاهرًا أو كالظاهر- قاله الحرالي: {من ربه} أي المحسن إليه في كل حال {كلمات} أي ترضيه سبحانه بما أفهمه التعبير بالتلقي، وهي جمع كلمة؛ وهي دعاء دعا به ربه أو ثناء أثنى به عليه؛ وتطلق الكلمة أيضًا على إمضاء أمر الله من غير تسبيب حكمة ولا ترتيب حكم- قاله الحرالي ثم قال: في عطف الفاء في هذه الآية إشعار بما استند إليه التلقي من تنبيه قلب آدم وتوفيقه مما أثبته له إمساك حقيقته عند ربه، ويعاضد معناه رفع الكلمات وتلقيها آدم في إحدى القراءتين، فكأنه تلقى الكلمات بما في باطنه فتلقته الكلمات بما أقبل بها عليه فكان مستحقًا لها، فكانت متلقية له بما جمعت القراءتان من المعنى {فتاب} من التوب وهو رجوع بظاهر باطنه الإنابة وهو رجوع بعلم باطنه الأوبة وهو رجوع بتقوى قلب- انتهى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

.فصل: أصل التلقي:

قال القفال: أصل التلقي هو التعرض للقاء ثم يوضع في موضع الاستقبال للشيء الجائي ثم يوضع موضع القبول والأخذ.
قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيم} [النمل: 6]، أي تلقنه.
ويقال: تلقينا الحجاج أي استقبلناهم.
ويقال: تلقيت هذه الكلمة من فلان أي أخذتها منه.
وإذا كان هذا أصل الكلمة وكان من تلقى رجلًا فتلاقيا لقي كل واحد صاحبه فأضيف الاجتماع إليهما معًا صلح أن يشتركا في الوصف بذلك، فيقال: كل ما تلقيته فقد تلقاك فجاز أن يقال: تلقى آدم كلمات أي أخذها ووعاها واستقبلها بالقبول، وجاز أن يقال: تلقى كلمات بالرفع على معنى جاءته عن الله كلمات ومثله قوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] وفي قراءة ابن مسعود الظالمون. اهـ.

.فصل: ماهية التوبة:

قال الفخر:
اعلم أنه لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى عرفه حقيقة التوبة لأن المكلف لابد وأن يعرف ماهية التوبة ويتمكن بفعلها من تدارك الذنوب ويميزها عن غيرها فضلًا عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل يجب حمله على أحد الأمور.
أحدها: التنبيه على المعصية الواقعة منه على وجه صار آدم عليه السلام عند ذلك من التائبين المنيبين.
وثانيها: أنه تعالى عرفه وجوب التوبة وكونها مقبولة لا محالة على معنى أن من أذنب ذنبًا صغيرًا أو كبيرًا ثم ندم على ما صنع وعزم على أن لا يعود فإني أتوب عليه.
قال الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَم مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي أخذها وقبلها وعمل بها.
وثالثها: أنه تعالى ذكره بنعمه العظيمة عليه فصار ذلك من الدواعي القوية إلى التوبة.
ورابعها: أنه تعالى علمه كلامًا لو حصلت التوبة معه لكان ذلك سببًا لكمال حال التوبة. اهـ.

.فصل: ذكر الخلاف في الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام من ربه سبحانه:

قال الفخر:
اختلفوا في أن تلك الكلمات ما هي؟ فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن آدم عليه السلام قال: يا رب ألم تخلقني بيدك بلا واسطة؟ قال: بلى.
قال: يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى.
قال: ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى.
قال: يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى.
قال: يا رب إن تبت وأصلحت تردني إلى الجنة؟ قال: بلى فهو قوله: {فَتَلَقَّى آدَم مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} وزاد السدي فيه: يا رب هل كنت كتبت علي ذنبًا؟ قال: نعم.
وثانيها: قال النخعي: أتيت ابن عباس فقلت: ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه.
قال: علم الله آدم وحواء أمر الحج فحجا وهي الكلمات التي تقال في الحج، فلما فرغا من الحج أوحى الله تعالى إليهما بأني قبلت توبتكما.
وثالثها: قال مجاهد وقتادة في إحدى الروايتين عنهما هي قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23].
ورابعها: قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم: إنها قوله: «لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءًا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءًا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت خير الراحمين».
لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءًا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم.
وخامسها: قالت عائشة لما أراد الله تعالى أن يتوب على آدم طاف بالبيت سبعًا، والبيت يومئذ ربوة حمراء، فلما صلى ركعتين استقبل البيت وقال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي.
اللهم إني أسألك إيمانًا يباشر قلبي ويقينًا صادقًا حتى اعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي وأرضى بما قسمت لي.
فأوحى الله تعالى إلى آدم: يا آدم قد غفرت لك ذنبك ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بهذا الدعاء الذي دعوتني به إلا غفرت ذنبه وكشفت همومه وغمومه ونزعت الفقر من بين عينيه وجاءته الدنيا وهو لا يريدها. اهـ.

.قال القرطبي:

واختلف أهل التأويل في الكلمات؛ فقال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد هي قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23].
وعن مجاهد أيضًا: سبحانك اللَّهُمَّ لا إله إلاّ أنت ربّي ظلمتُ نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم.
وقالت طائفة: رأى مكتوبًا على ساق العرش محمد رسول الله فتشفّع بذلك، فهي الكلمات.
وقالت طائفة: المراد بالكلمات البكاء والحياء والدعاء.
وقيل: الندم والاستغفار والحزن.
قال ابن عطية: وهذا يقتضي أن آدم عليه السلام لم يقل شيئًا إلا الاستغفار المعهود.
وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب؛ فقال: يقول ما قاله أبواه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} الآية.
وقال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي} [القصص: 16].
وقال يونس: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87].
وعن ابن عباس ووهب بن مُنَبِّه: أن الكلمات سبحانك اللّهُمّ وبحمدك، لا إله إلا أنتَ عملتُ سوءًا وظلمتُ نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، سبحانك اللّهُمّ وبحمدك، لا إله إلا أنتَ عملتُ سوءًا وظلمتُ نفسي فتُبْ عليّ إنك أنت التواب الرحيم.
وقال محمد بن كعب هي قوله: لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملتُ سوءًا وظلمتُ نفسي فتُبْ عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم.
لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملتُ سوءًا وظلمتُ نفسي فارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملتُ سوءًا وظلمتُ نفسي فارحمني إنك أرحم الراحمين، وقيل: الكلمات قوله حين عطس: «الحمد لله». اهـ.

.قال الخازن:

قيل إن تلك الكلمات هي قوله: {ربنا ظلمنا أنفسنا} الآية وقيل هي لا إله إلاّ أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءًا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءًا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم لا إله إلاّ أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءًا وظلمت نفس فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين، وقيل قال آدم: يا رب أرأيت ما أتيت أشي ابتدعته من تلقاء نفسي أم شيء قدرته عليّ قبل أن تخلقني؟ بل شيء قدرته عليك قبل أن أخلقك.
قال: يا رب فكما قدرته علي فاغفر لي.
وقيل: إن الله تعالى أمر آدم بالحج وعلمه أركانه فطاف بالبيت سبعًا وهو يومئذٍ ربوة حمراء ثم صلّى ركعتين ثم استقبل البيت وقال اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي، فأوحى الله تعالى إليه يا آدم قد غفرت لك ذنوبك.
وقيل: إن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله تعالى.
وقيل هي ثلاثة أشياء: الحياء والدعاء والبكاء.
قال ابن عباس: بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يومًا.
وقيل: لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حين أصاب الخطيئة لو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حيث أخرجه الله من الجنة: {فتاب عليه} أي فتجاوز عنه وغفر له. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَتَلَقَّى آدَم مِن رَّبِّهِ كلمات} المراد بتلقى الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها، فهو مستعار من استقبال الناس بعض الأحبة إذا قدم بعد طول الغيبة لأنهم لا يدعون شيئًا من الإكرام إلا فعلوه، وإكرام الكلمات الواردة من الحضرة الأخذ والقبول والعمل بها، وفي التعبير بالتلقي إيماء إلى أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت في مقام البعد و{مّن رَّبّهِ} حال من {كلمات} مقدم عليها، وقيل: متعلق ب {تُلْقِىَ} وهي من تلقاه منه بمعنى تلقنه، ولولا خلوّه عما في الأول من اللطافة لتلقيناه بالقبول، وقرأ ابن كثير بنصب {آدَم} ورفع {كلمات} على معنى استقبلته فكأنها مكرمة له لكونها سبب العفو عنه، وقد يجعل الاستقبال مجازًا عن البلوغ بعلاقة السببية، والمروي في المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن هذه الكلمات هي {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} [الأعراف: 3 2] الآية، وعن ابن مسعود أنها: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
وقيل: رأى مكتوبًا على ساق العرش، محمد رسول الله فتشفع به، وإذا أطلقت الكلمة على عيسى عليه السلام، فلتطلق الكلمات على الروح الأعظم، والحبيب الأكرم صلى الله عليه وسلم، فما عيسى، بل وما موسى، بل وما..، وما..، إلا بعض من ظهور أنواره، وزهرة من رياض أنواره، وروي غير ذلك. اهـ.

.قال السعدي:

{فَتَلَقَّى آدَمُ} أي: تلقف وتلقن، وألهمه الله {مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} وهي قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} الآية، فاعترف بذنبه وسأل الله مغفرته {فَتَابَ} الله {عَلَيْهِ} ورحمه {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ} لمن تاب إليه وأناب.
وتوبته نوعان: توفيقه أولا ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} الآية.
جاء بالفاء إيذانًا بمبادرة آدم بطلب العفو.
والتلقي استقبال إكرام ومسرة قال تعالى: {وتتلقاهم الملائكة} [الأنبياء: 103] ووجه دلالته على ذلك أنه صيغة تفعل من لقيه وهي دالة على التكلف لحصوله وتطلبه وإنما يتكلف ويتطلب لقاء الأمر المحبوب بخلاف لاقى فلا يدل على كون الملاقى محبوبًا بل تقول لاقى العدو.
واللقاء الحضور نحو الغير بقصد أو بغير قصد وفي خير أو شر، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا} [الأنفال: 45] الآية فالتعبير بتلقى هنا مؤذن بأن الكلمات التي أخذها آدم كلمات نافعة له فعلم أنها ليست كلمات زجر وتوبيخ بل كلمات عفو ومغفرة ورضى وهي إما كلمات لقنها آدم من قبل الله تعالى ليقولها طالبًا المغفرة وإما كلمات إعلام من الله إياه بأنه عفا عنه بعد أن أهبطه من الجنة اكتفاء بذلك في العقوبة، ومما يدل على أنها كلمات عفو عطف {فتاب عليه} بالفاء إذ لو كانت كلمات توبيخ لما صح التسبب.
وتلقي آدم للكلمات إما بطريق الوحي أو الإلهام.
ولهم في تعيين هذه الكلمات روايات أعرضنا عنها لقلة جدوى الاشتغال بذلك، فقد قال آدم الكلمات فتيب عليه فلنهتم نحن بما ينفعنا من الكلام الصالح والفعل الصالح.
ولم تذكر توبة حواء هنا مع أنها مذكورة في مواضع أخرى نحو قوله: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 23] لظهور أنها تتبعه في سائر أحواله وأنه أرشدها إلى ما أرشد إليه، وإنما لم يذكر في هذه الآية لأن الكلام جرى على الابتداء بتكريم آدم وجعله في الأرض خليفة فكان الاعتناء بذكر تقلباته هو الغرض المقصود.
وأصل معنى تاب رجع ونظيره ثاب بالمثلثة، ولما كانت التوبة رجوعًا من التائب إلى الطاعة ونبذًا للعصيان وكان قبولها رجوعًا من المتوب إليه إلى الرضى وحسن المعاملة وصف بذلك رجوع العاصي عن العصيان ورجوع المعصي عن العقاب فقالوا تاب فلان لفلان فتاب عليه لأنهم ضمنوا الثاني معنى عطف ورضى فاختلاف مفادي هذا الفعل باختلاف الحرف الذي يتعدى به وكان أصله مبنيًا على المشاكلة.
والتوبة تتركب من علم وحال وعمل، فالعلم هو معرفة الذنب والحال هو تألم النفس من ذلك الضرر ويسمى ندمًا، والعمل هو الترك للإثم وتدارك ما يمكن تداركه وهو المقصود من التوبة، وأما الندم فهو الباعث على العمل ولذلك ورد في الحديث: «الندم توبة» قاله الغزالي، قلت: أي لأنه سببها ضرورة أنه لم يقصر لأن أحد الجزءين غير معرفة.
ثم التعبير بتاب عليه هنا مشعر بأن أكل آدم من الشجرة خطيئة إثم غير أن الخطيئة يومئذ لم يكن مرتبًا عليها جزاءُ عقاب أخروي ولا نقص في الدين ولكنها أوجبت تأديبًا عاجلًا لأن الإنسان يومئذ في طور كطور الصبا فلذلك لم يكن ارتكابها بقادح في نبوءة آدم على أنها لا يظهر أن تعد من الكبائر بل قصارها أن تكون من الصغائر إذ ليس فيها معنى يؤذن بقلة اكتراث بالأمر ولا يترتب عليه فساد، وفي عصمة الأنبياء من الصغائر خلاف بين أصحاب الأشعري وبين الماتريدي وهي في كتب الكلام، على أن نبوءة آدم فيما يظهر كانت بعد النزول إلى الأرض فلم تكن له عصمة قبل ذلك إذ العصمة عند النبوءة.
وعندي وبعضه مأخوذ من كلامهم أن ذلك العالم لم يكن عالم تكليف بالمعنى المتعارف عند أهل الشرائع بل عالم تربية فقط فتكون خطيئة آدم ومعصيته مخالفة تأديبية ولذلك كان الجزاء عليها جاريًا على طريقة العقوبات التأديبية بالحرمان مما جره إلى المعصية، فإطلاق المعصية والتوبة وظلم النفس على جميع ذلك هو بغير المعنى الشرعي المعروف بل هي معصية كبيرة وتوبة بمعنى الندم والرجوع إلى التزام حسن السلوك، وتوبة الله عليه بمعنى الرضى لا بمعنى غفران الذنوب، وظلم النفس بمعنى التسبب في حرمانها من لذات كثيرة بسبب لذة قليلة فهو قد خالف ما كان ينبغي أن لا يخالفه ويدل لذلك قوله بعد ذلك: {فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي إلى قوله خالدون} [البقرة: 38، 39] فإنه هو الذي بين به لهم أن المعصية بعد ذلك اليوم جزاؤها جهنم فأورد عليّ بعض الحذاق من طلبة الدرس أنه إذا لم يكن العالم عالم تكليف فكيف كفر إبليس باعتراضه وامتناعه من السجود؟ فأجبته بأن دلالة ألوهية الله تعالى في ذلك العالم حاصلة بالمشاهدة حصولًا أقوى من كل دلالة زيادة على دلالة العقل لأن إبليس شاهد بالحس الدلائل على تفرده تعالى بالألوهية والخلق والتصرف المطلق وبعلمه وحكمته واتصافه بصفات الكمال كما حصل العلم بمثله للملائكة فكان اعتراضه على فعله والتغليط إنكارًا لمقتضى تلك الصفات فكان مخالفة لدلائل الإيمان فكفر به.
وأما الأمر والنهي والطاعة والمعصية وجزاء ذلك فلا يتلقى إلا بالإخبارات الشرعية وهي لم تحصل يومئذ وإنما حصلت بقوله تعالى لهم: {فمن تبع هداي} الآية فظهر الفرق.
وقرأ الجمهور {آدم} بالرفع و{كلمات} بالنصب، وقرأه ابن كثير بنصب آدم ورفع كلمات على تأويل تلقى بمعنى بلغته كلمات فيكون التلقي مجازًا عن البلوغ بعلاقة السببية. اهـ.